إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: ٥] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: ٨، ٩].
ومن الحكمة: الجمعُ بين الإعلان والإِسرار؛ إزالة لما يقع في نفس المدعو من اتهام الداعي بأنه ما أراد من دعوته علانية إلا تلويث عرضه، وإذاعة كلمة السوء عن سيرته.
ومن حسن النظر: أن تكون الدعوة إلى المطالب العظيمة بطريق الترقي؛ كأن يبتدئ المصلح بما هو أيسر عملاً، أو أقرب إلى المألوف لدى الأمة، أو أظهر حكمة لعقولهم. وعلى هذه القاعدة وضع الإسلام سياسته، فنجد في تاريخ التشريع: أنه أمر بالصلاة، وسكت عن الكلام في أثنائها، ثم نهى عنه، وجعله من مبطلاتها. وأمر بالإنفاق على وجه التطوع، ثم شرع فريضة الزكاة. ونبه على مفسدة الخمر بقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[البقرة: ٢١٩]. ثم منع منها في حال الصلاة خاصة فقال:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النساء: ٤٣]. ثم حرّمها في كل حال تحريمًا لا هوادة فيه فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: ٩٠].
وروي عن بعض الصحابة: أنه قال: لو جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين وبالقرآن دفعة، لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام. ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها، وعرفنا حلاوة الإيمان، قبلنا ما وراءه كلمة بعد كلمة، على سبيل الرفق، إلى أن تم الدين، وكملت الشريعة.
ويحكى عن عمر بن عبد العزيز: أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك