للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا تنفذ الأمور؟! فو الله! لا أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. فقال له عمر: لا تعجل يا بنيَّ؛ فإن الله ذمَّ الخمر مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، وتكون من ذا فتنة.

ويشابه هذا: أن يقصد الداعي إلى أمر فيه مشقة، فيضع أمامه تمهيدًا يخفف وقعه، ويقلل شأنه؛ حتى لا تكبره النفوس، وترتخي دونه العزائم خَورًا. ومثال هذا: ما سلكه التنزيل في التكليف بفريضة الصيام؛ حيث شرعه أولاً في أمر مجمل فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: ١٨٣]، وذكر أن هذا النوع من القربة قد فرض على الأمم السالفة، فقال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣]، فهو عمل مألوف، وشريعة غير خاصة، وفي هذه التذكرة ما يدخله في قبيل السنن الجارية، ويجعله أمراً هينًا. ثم أشعرهم بأن أيامه في الحساب قليلة، فقال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: ١٨٤]. وبعد أن هيأ النفوس لقبول فريضته، قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥].

وجرى التنزيل على هذه السنّة عند الترغيب في أمر صعب المركب، شديدِ الأثر على النفس، وهو الصبر على الأذى، ومقابلة الإساءة بالعفو، فأمر بالعدل في المجازاة، ونهى عن تجاوز المثل في العقوبة، فقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: ١٢٦]، ثم بيّن في قوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: ١٢٦]: أن الأكمل لهم الإغضاء عن السيئة، وترك المؤاخذة عليها، فالصفح عن الأذى - مع القدرة على الانتقام -