ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الرحمة. ثم قال تعالى:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: ١٢٧]، فرغب في الصبر بطريق أبلغ؛ إذ وجّه الخطابَ به إلى الرسول اللأعظم، وهو أسرع الناس إلى الاستقامة على الطريقة، فيجدون من سنّة التأسي به نشاطاً للطاعة، وباعثاً على التجمل بالصبر، وإن ثقلت على النفوس وطأته.
ويُقارب هذا النوع من السياسة: أن يأخذ الداعي في تقرير المصالح بوجه عام حتى يأنس لها الناس، ويتفقهوا في طرق الخير على سبيل الإجمال، ثم يندبهم إلى الأعمال المندرجة تحتها ببيان وتفصيل؛ فإن من السهل على البشر قبول القضايا الكلية، وقلما نازعوا في صحتها. وأكثر ما يقع منهم الإنكار والاختلاف في المسائل الجزئية، وأحكام النوازل المعينة، وعلى هذا النمط أدار الإسلام سياسته، فأسسّ معظم قواعده العامة بمكة، وشرع أكثر الأحكام الفرعية بالمدينة المنوَّرة.
ومن حسن السياسة: ألا يجهر برأيه الصريح في صدر مقاله، وإنما يبتدئ بما يخفُّ على المخاطبين سماعه من المعاني الحائمة حول الغرض، ثم يعبر عن المراد بلفظ مجمل، ويدنو من إيضاحه شيئاً فشيئًا حتى لا يفصح عنه إلا وقد ألفته نفوسهم، وهدأت له خواطرهم. وعلى هذه الطريقة جرى ذلك المؤمن من آل فرعون، فقد كان يكتم إيمانه، وهو يحب أن يظهره، ويدعو قومه إلى مثله، وكان يخشى- من التصريح بعقيدته - بادرة غضبهم، أو انتقامهم منه، حتى اغتنم وقت إجماعهم على قتل موسى - عليه السلام - فرصة، وقام ينكر عليهم هذه المؤامرة المخزية، وتخلص إلى أن دعاهم إلى الإيمان بما بُعث به هذا الرسول دعوةً ظاهرة، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ