الحق في يقظة وعزم، وتفهم من عدم مقابلتها بالامتعاض: أن للرؤساء صدوراً فسيحة، وبصائر سليمة. وإذا قيض الله لأمة دعاة لا تأخذهم غفلة ولا جبن، ورؤساء يسمعون دعوة الحق، فلا تاخذهم العزة بالإثم، فهي الأمة البالغة الذروة من السعادة، أو السائرة إلى الذروة بخطا سريعة واسعة.
ولا أريد أن أذهب بك إلى عهود الخلفاء الراشدين، فتلك عهود معروفة بان الداعي يقول فيها كلمة الحق، وهو على يقين من أنه محفوف بالأمن من كل ناحية، حتى لا يحس الحاجة إلى تذكير نفسه بفضل الشجاعة، ومعروفة بأن الرئيس يسمع فيها كلمة الحق، ويسيغها دون أن يجد لها مرارة، ولكني أريد منك التفاتة إلى عهود دول إسلامية جاءت بعد تلك العهود الزاهرة، وأخذت فيها الدعوة إلى الحق أو الإصلاح حريتها، وكان الفضل في هذه الحرية لقوة إيمان الدعاة بما قاموا يدعون إليه من صالح، ولاستنارة بصائر الرؤساء، وإخلاصهم في تدبير شؤون جماعاتهم.
ومن العهود التي حظيت فيها الدعوة بحريتها الضافية: عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر بالأندلس، فكان العلماء في عهده يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويحكمون بما أنزل الله، لا يخافون لومة لائم، وكثيراً ما يوجهون أمرهم ونهيهم إلى الخليفة نفسه، فيتلقى دعوتهم بالرضاء، ولا تحدثه نفسه بان يلحق بهم أذى، أو يقطعهم عن القيام بواجبهم، أو ينقصهم مثقال ذرة من الإجلال اللائق بمقاماتهم، وكان منذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة يواجهه بإنكار بعض أفعاله الخاطئة، وربما اشتد في لهجة الإنكار، وكان في مقدور الناصر أن يناله بأذى، ولكنه عرف إخلاص منذر، فتلقى إنكاره بأناة وسكينة.