ومن العهود التي أخذت فيها الدعوة حريتها: عهد أبي جعفر المنصور، وأذكر أنه وفد إليه عبد الرحمن بن زياد من القيروان، فلما جلس إليه، قال له المنصور: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، وأمراً قبيحاً!! قال له أبو جعفر: لعله فيما بعُد عن بابي، قال: بل كلما قربت، استفحل الأمر وغلُظ، قال: ما يمنعك أن ترفع ذلك إلينا وقولك عندنا مقبول؟ قال: رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيها. فأثّرت في أبي جعفر الموعظة، حتى اغرورقت لها عيناه.
وقد تحظى الأمة برجال تذهب بهم الغيرة على الحقوق والمصالح أن يقولوا الحق، ويتحروا في دعوتهم الصراحة، ولكنها تكون محرومة من رؤساء تتسع صدورهم لسماع كلمة الحق، فيعملون جهدهم لإسكات أولئك الدعاة، ويأخذون في قطعهم عن الدعوة بكل ما يستطيعون من حيلة.
وهاهنا يقع بين أولئك الدعاة والرؤساء جدال وتدافع، يريد الدعاة أن يوصلوا نصائحهم إلى كل أذن، ويشعروا كل مفسد بأنه مفسد، ويريد الرؤساء أن يستبدوا بتصريف الشؤون، ولا يشاركهم فيها أحد، ولو على وجه الوعظ والإرشاد.
وبين هذا الجدال والتدافع يسقط من صفوف الدعاة كثير من المستضعفين والمرائين، أما قوي العزيمة، سليم الإرادة، فيبقى ثابت القدم في الجهاد، وقد يدعوه إخلاصه وحكمته إلى أن يسلك في الدعوة أساليب تنفذ بها إلى القلوب، دون أن يجد المستبد الذي فيه مسكة من عقل منفذاً لصرفه عن الدعوة. فإذا حكى التاريخ، أو دلت المشاهدة على أن طائفة كانوا يدعون إلى حق جُحد، أو فضيلة أضيعت، ثم أخلدوا إلى الصمت، والحق لم يزل