وكان لسعيد رخصة في أن يمكث في منزله أياماً حتى يصرف عنه عذاب القتل، ولكنه رأى أن الحياة أحقر من أن يترك المسلم من أجلها صلاة أو صلوات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الجماعة.
وكان لسعيد رخصة في أن يترك محله في المسجد، ويجلس في مكان آخر من المسجد، فيتجنب بذلك عقوبة القتل دون أن يخطر على بال أحد أن سعيداً غير رأيه في المبايعة، أو تردد في حكمها، ولكن سعيدًا يزدري الحياة، ولا يهاب الموت، فلا يرى تهديده بالقتل بالأمر الذي يمنعه من أن يكون صريحاً في الحق، وأن يذهب في هذه الصراحة إلى أقصى غاية، فلا يرضى لنفسه أن يترك شيئاً اعتاده، ولا داعي لهذا الترك، سوى اتقاء أذى تجرّه إليه تلك الصراحة.
ثم إن سعيد - رضي الله عنه - لو قبل إحدى الخصال التي عرضها عليه الفقهاء الثلاثة، لفتح باباً لمن يريد أن ينعته بالجبن والفزع من الموت، وذلك ما لا يصح أن يكون نعت عالم درس الشريعة الغرّاء بحق، وعرف ما تقصد إليه من إقامة صروح العزّة والسيادة.
ومأخذ العبرة في هذه القصة: أن سعيد بن المسيّب قد ضرب مثلاً أعلى لشجاعة العلماء وثباتهم على ما يرونه شريعة، واحتمالهم في سبيل ذلك كل ما يتوقع من أذى، ولو بلغ ضرب الأعناق بالسيوف.