ويبعد في حلبة السباق شأوه، ولو كشف لنا الغطاء عن حياة العلماء الذين أوذوا في سبيل الدعوة إلى الخير، ولم ينحرفوا عن خطتهم فتيلًا، لرأينا كيف ارتفعت منزلتهم، وتجلى وقارهم، حتى في عين من كان يسومهم سوء الأذية، أو يشفي غليل صدره أن يصرعوا في مصارع الاضطهاد.
الرجال الذين أحرزوا هذه المزايا، واستحقوا بها لقب العالم المصلح، ليسوا بكثير، فلو قلبت نظرك في السنين الماضية، وصعدت به إلى عهد غير قريب، رأيت المعاهد العلمية إنما تنبت في العصر الواحد الرجل أو الرجلين، وعلة هذا: ما طرأ على أسلوب التعليم من العوج الذي يقف بالأفكار في دائرة ضيقة، ويحرمها من أن تتمتع بنعمة استقلالها، ثم إن كثيراً من الحكومات لا توسع لدعاة الإصلاح صدرها، بل تنظر إليهم - في أغلب الأوقات - نظر المزدري بهم، أو الناقم عليهم، وهذا يفسد على العالم خصلة الشهامة، فينقلب إلى خمول وفرار من معترك الحياة.
كيف تكون حياة العلماء، ومبلغ الأمة من السعادة، لو جرى جميع الرؤساء على سياسة الخليفة الناصر, حيث قام القاضي منذر بن سعيد على منبر الجامع بقرطبة، وخطب منكراً عليه -وهو من الشاهدين- الإسرافَ في زخرفة المباني، وانفاق أموال الرعية في غير مصلحتها، وقارعاً سمعه بمثل قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: ١٢٨ - ١٣٠]، وما كان من الخليفة سوى أن قال لابنه الحكم- حين قال له: اعزله -: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟! هذا ما لا يكون.