للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والبواعث تختلف إلى مراتب، أعلاها: التقرب من رضا منشئ الكائنات، والتحلي بحسن طاعته، وأدناها: اقتناص المال، أو إدراك الوجاهة في أعين الخليقة، وبينهما غايات بحث فيها علماء الشريعة من جهة ملائمة الإرادة الخالصة، أو تكدير صفوها، وممن حرر المقال في تفاصيلها، وبسط أدلتها: أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته".

ينبهك على التفاضل في الإرادات الحسنة: أن الرجلين قد يتماثلان في درجة الفضل، وتتحد آثارهما، ولكنك تجد أحدهما قد تمكن من الأخذ بالمكارم، وتجمعت حوله وسائل الارتقاء، حينما احتاج الآخر إلى مصارعة الموانع، وصرف الوسع في تحضير الوسائل، فإنا نقطع لعزيمة الثاني بفضل قوة هي مجهولة في همة الأول؛ إذ من الجائز أن همة الأول لا تثبت لتسوية العقبات، ولا تشد حزامها لتحصيل ما يعوزها من الوسائل المتعاصية.

قال أبو الوليد الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت تُعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب "يشير إلى ثروة ابن حزم وآبائه"، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائن السوق "جمع ساق"، فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبتَ العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.

ويؤيد ابن حزم في جوابه هذا: أن من تربى في مهد الترف، وأحاطت به زخارف الدنيا من كل ناحية، يسكن في قلبه الحرصُ على اللذائذ، ويصعب عليه التخلص من شواغلها، فمن خلع صدره من الشغف بمناظر النعيم، والميل إلى مضاجع الراحة، وهي طوع يمينه، ثم استبدلها بالتوجه في سبيل