وفيما روى البخاري: أن رجلاً مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لرجل عنده جالس:"ما رأيك في هذا؟ "، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله! حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مر رجل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيك في هذا؟ "، فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وان قال أن لا يسمع لقوله. فقوله في وصف الرجل الثاني:"من فقراء المسلمين" يدل على أنه قصد بقوله في نعت الرجل الأول "من أشراف الناس": أنه غني، فأرشده - عليه الصلاة والسلام -, ونبهه على عدم تحقيقه في معنى الشرف بقوله:"هذا - أي: الفقير - خير من ملء الأرض من مثل هذا"؛ أي: الغني.
وقد يتعاظم في الطبيعة تفخيم قدر المال، حتى يرسل على الفكر ستار الوهم، ويمثل له أن صفة الغنى رأس كل فضيلة، وملاك كل شرط لأهلية التصدر بالمجالس والمناصب، قال تعالى في قصة طالوت:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}[البقرة: ٢٤٧]، فانظر كيف ذهبوا إلى أن واسع الثروة، هو الجدير بأن يستخلص لرئاسة الملك، إلى أن أيقظهم نبيهم من سكرة الجاهلين، وهداهم إلى أن الوصف الذي يعتمد عليه في كفاءة الرئاسة، إنما هو العلم وصحة الجسم بقوله:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}[البقرة: ٢٤٧]، ففضيلة العلم مطلع الآراء النيرة، والتدابير الماسكة بمحكم السياسة، وصحة الجسم مظهر الشجاعة، أو الإقدام على تنفيذها.