للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد يكون العمل في نفسه شريفاً، فتخالطه بحسب مجرى العادة أحوال سافلة، فيسري في الطباع انتقاصه تبعاً لما حف به من المكاره؛ كما عد طائفة قرض الشعر نقيصة، حيث وضعه كثير من الشعراء في قلب الحقائق، ولم يتحاشوا أن يلمزوا به فاضلاً، أو يداهنوا به ظالماً، حتى قال بعضهم:

ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد

وسلوك كثير من الشعراء ذلك المسلك الخاسر لا يجرّ المهانة إلى أصل الصناعة، فلو أخذ أحد على عهدته أن لا ينتحله إلا في الحكمة، أو الانتصار على ظالم، كان من أحسن المذاهب في الخير، وأحمدها غاية، ولقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير في هجاء قريش، وقال لحسان بن ثابت: "قل، وروح القدس معك".

وحطّ ابن خلدون من شأن التجارة، قال: لاستلزامها المكايسة في البيع والشراء، وخلق المكايسة بعيد عن المروءة التي تتخلق بها الملوك والأشراف، ثم ذكر ما يعرض لها من الغش والخلابة، وتعاهد الإيمان الفاجرة. وأنت إذا أمعنت في كلامه، واعتبرت المكايسة ضرورية للتجارة، أخذت منه للتجارة حالين:

أحدهما: أن يرتكب صاحبها الغش والخلابة، وتعاهد الإيمان الكاذبة، وهي بالنظر إلى هذه الحالة نقيصة تنزع عنه ثوب المروءة، وتنزل به عن مرتبة الملوك والأشراف، ولكن هذه الحالة غير داخلة في حقيقة التجارة، ولا هي من مقتضياتها، فكيف يسري نقصها إلى أصل هذه الحرفة، ويجعل سبباً لإخلالها بالمروءة اللائقة بالأشراف؟.