ومن أمثلة هذا: أنهم قرروا أنَّ "أن" المصدرية لا يجوز حذفها، وأن نحو:"تسمعَ بالمعَيدي خيرٌ من أن تراه" يُحفظ، ولا يقاس عليه. وقد جاء على نحو هذا المثَل قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}[الروم: ٢٤]، ومقتضى ارتفاع منزلة القرآن في الفصاحة، وأخذه بأحسن طرق البيان، أن يجري حذف "أن" المصدرية، كما ورد في الآية مجرى ما يصح القياس عليه، وقرر جماعة من النحاة: أنه لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، من نحو: ضربُ عمرًا زيدٍ، وقد ورد على نحو هذا المثال: قوله تعالى في قراءة ابن عامر: (قتل أولادَم شركائِهم)، فأنكر بعضهم القراءة، وذهب بها آخرون مذهب التأويل والتقدير.
والحق أن نتلقى القراءة المتواترة بالقبول، ولا نحمل الآية مالا تطيقه بلاغتها من التعسف في التقدير، بل نبقيها على ظاهرها، ولا نسلم أن الفصل في مثل هذا مخالف للفصاحة؛ ويالأحرى بعد أن أورد له ابن جني في "الخصائص" شواهد متعددة، ولا أخال أحداً يعوّل في مثل هذا على ذوقه، فيقول: إن الذوق ينفر من صورة المعنى الذي يفصل فيه بين المضاف والمضاف إليه بأحد معمولات المضاف؛ فإن مثل هذا لا يرجع فيه إلى ملاءمة الأذواق الخاصة، بل مداره على ما يجري به الاستعمال، ويثبت في الرواية، فما نجده واردًا في الكلام الفصيح نعلم أنه لا يكدر من مشرب الفصاحة العربية، ولا يثلم من سور البلاغة فتيلًا.
ومما يقرِّب لك أن حكم الفصل بين الكلم لا يرجع فيه إلى الذوق الخاص، وأنه عائد إلى ما يسمع من كلام المشهود لهم بالفصاحة في تلك اللغة: أن اللغات تختلف فيه اختلافاً كثيراً، ففي اللسان الألماني - مثلاً -