في كثير من الأحكام التي خالف فيها الجمهور، وسبقه إلى مخالفة النحويين في هذا الشأن: أبو محمد بن حزم، فقال عقب الكلام الذي نقلناه عنه في الاحتجاج بالقرآن الكريم:"وإذا وَجد- يعني: الباحث في العربية- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامًا، فعَل به مثل ذلك؛ (أي: صرفَه عن وجهه، وحرَّفه عن موضعه)، وتالله! لقد كان محمد بن عبد الله قبل أن يكرمه الله بالنبوة، وأيام كان بمكة أعلمَ بلغة قومه وأفصح، فكيف بعد أن اختصه الله للنذارة، واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه؟! ".
وكلام ابن حزم هذا لم يصادف المفصِل في رد مذهب الجمهور؛ لأن الجمهور لم يمتنوا من الاستشهاد بالحديث النبوي في تقرير أحكام اللسان لاعتقادهم النقص في فصاحة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا يخطر على بال أحد ألمَّ بشيء من سيرته؛ فضلاً عن علماء عرفوا أنه كان أفصح من نطق بالضاد، وأوتي من جوامع الكلم وعلم ألسنة العرب ما لا يجاريه فيه أحد سبقه أو جاء من بعده، وإنما امتنعوا من ذلك؛ لكثرة ما وقع في الحديث الشريف من الرواية بالمعنى، وفي الرواة مولَّدون لم ينشؤوا على النطق بالعربية الصحيحة، والدليل على تصرف الرواة في ألفاظ الحديث - بعد احتفاظهم بمعانيها -: وجود أحاديث تختلف ألفاظها اختلافاً كثيراً، فترى الحديث الوارد في وقعة معينة قد اختلفت ألفاظه في الرواية، ومن هذه الألفاظ ما يكون جاريًا على المعروف في كلام العرب، ومنها ما يكون مخالفاً، وتصرف الرواة في الأحاديث هذا التصرف؛ لأنهم كانوا يوجهون همهم إلى ما أودِعَه الحديث من أحكام وآداب، فمتى عرف الراوي أن عبارته أحاطت بالمعنى وأخذته من جوانبه، أطلقها غير ملتزم الألفاظ التي تلقى فيها المعنى أولاً.