الحسنة ممن يعادلها في جودة القريحة، وفصاحة المنطق بفطرته؛ لاشتمال المدن على معان شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا المشاهدة.
ولما فارق العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام، وبث تعاليمه بين الأمم، اقتضت مخالطتهم لمن لا يحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم، ودخول التغيير عليها في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها، وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فأشار على أبي الأسود الدؤلي بوضع علم النحو، ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها ويين غوائل الضياع والاضمحلال، وحين انتشرت المخالطة، وتفشى داء اللحن، أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام معاصريهم من العرب، ويعدّون أول المحدَثين الذين لا يستشهد باقوالهم: بشار بن برد المتوفى سنة ١٦٧ هـ، واحتج سيبويه بشيء من شعر بشار بدون اعتماد عليه، وإنما أراد مصانعته، وكف أذيته؛ حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره، كما استشهد أبو علي الفارسي في كتاب "الإيضاح" بقول أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الاماني لم يزل مهزولا
وليس من عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام؛ لأن عضد الدولة كان يعجب بهذا البيت، وينشده كثيراً.
واستشهد صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}[البقرة: ٢٠] ببيت من شعر أبي تمام، وقال: وهو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة