حتى إذا ما تلقيت صحيفة من هذا القبيل، وألقيت فيها نظرك ليطوف عليها بالمطالعة، أدركته عند كل فقرة حبسة، والتوت أمامه طرق فهمها، وإن كانت معاني مفرداتها جلية، فتحس به كيف ينتقل من كلمة إلى أخرى بخطوات ضيقة كأنما حمل على قيد من حديد. وأكثر هؤلاء يهملون النظر إلى جانب المعنى والمحافظة على إقامته واستيفائه، وهذا ما بعث الشيخ عبد القاهر الجرجاني حين قام ينادي بابسط عبارة: إن الألفاظ خدم للمعاني، وإن المعاني مالكة سياسة الألفاظ، وأقام الحجة في كتابيه "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة" على أن مزية الفصاحة إنما استحقتها الألفاظ، ووصفت بها من جهة معانيها، وأزال كل شبهة عرضت لمن اعتقد أنها مزية استحقها اللفظ بنفسه.
وأدرك غالب المحررين اليوم: أن تتبع هذه الحسنات، ومواصلة العمل بها في نظم الكلام يبدلها سيئات تشمئز منها قلوب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بياناً، فأقلعوا عن الإكثار منها، لا سيما في خطابات الجمهور، وزهدوا فيها، إلا ما سمح به الخاطر عفواً، ورمته الطبيعة بدون كلفة ظاهرة.
وكانت اللغة في خلال الأعصر الماضية تعلو وتضعف وتنتشر في أنحاء المعمورة على حسب كرم الدولة، وعناية رجالها بالفنون الأدبية، فارتفع ذكرها حين كان الأمير سيف الدولة يباحث أبا علي الفارسي في غوامض علم النحو، وينقد شعر أبي الطيب المتنبي بذوق لطيف، ويجازيه وغيره من الشعراء بغير حساب.
وأرتقى شأنها يوم قام القاضي منذر بن سعيد في مجلس الملك الناصر لدين الله عند احتفاله برسول ملك الروم في قصر قرطبة، وشرع يخطب من