ثم نشأ بجانب هذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من أسباب حسنها، هو: أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء وخطبهم، وحسروا اللثام عن وجه بيانها، فابصروا فيها محاسن من فنون البديع؛ كالاستعارة والجناس والتورية، فشغفوا بها، وثابروا على إيرادها في منظوماتهم؛ توفيراً لحسنها، واستزادة من التأنق فيها، فكان الناس يقولون: إن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها:
"طلل الجميع أراك غير حميد"
فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها، وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. وما تعاصى فهمها على الأعرابي إلا لكونه سمع شعراً حشي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب المألوف، فثقل تأليفه، وبعد عن الأفهام تناوله.
واتبع طريقهما كثير من الأدباء، وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى مخالفة قانون العربية، وتغيير بنية الكلمة من أجلها؛ كقول بعضهم:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي
فكأنه زاد في مصدر تلف ألفاً يتم له الجناس مع قوله: تلاف، ولا نعرف في كتب اللغة من ذكر التلاف مصدراً لتلف، وإنما يوردون في مصدره التلف - بدون ألف -.
ولم تقف سيئة الإكثار من البديع عند حد الشعر، بل تعدى وباؤها إلى النثر أيضاً، فطفق كثير من الكتاب يملؤون رسائلهم بوجوه التحسين: الاستعارة والجناس ونحوها، واجتهدوا أن لا يفوتهم الشعراء بواحد منها،