وهذا المذهب ساقط بنفسه، ولا أظنك تجد له نظيراً بين علماء لغة يجري في عروقها دم الحياة (١).
وجمهور العلماء على أن مدار صحة المجاز على تحقق ما كان يراعيه العرب من نوع العلاقات، فلا تقف عند حد الألفاظ التي استعملوها في غير ما وضعت له؛ كالأسد والقمر والغيث، فإذا رأيناهم قد نقلوا اسم شيء إلى آخر لعلاقة السببية- مثلاً -، جرينا على أثرهم، وساغ لنا أن نتصرف في الألفاظ تصرفهم، فننقل اسم كل سبب إلى المعنى الذي ينشأ عنه، كما ننقل اسم كل محل إلى ما يحل فيه، وننقل اسم كل معنى إلى ما بينه وبين ذلك المعنى وجه من المشابهة، فنطلق لفظ "الاستقلال" على راحة البال وهناءة العيش، ونسمي الكتب: خِزانة، ونستعمل الرعد في أصوات المدافع، وان لم يذهب العرب بلفظ الاستقلال والخزانة والرعد هذا المذهب من المجاز.
وقد جرى على هذا المذهب أئمة الأدب، فما كانوا ليتوقفوا في الأخذ بسبيل المجاز إلا على تحقق نوع العلاقة، دون يبحثوا عن اللفظ بعينه، ليتعرفوا: هل سلك به العرب مسلك المجاز؟.
ولو لم يكن باب القياس في المجاز مفتوحاً إلى هذا الحد، لما وجد الشعراء والخطباء في فن البيان متسعًا، ولما أحرزت اللغة من ضروب المجاز والاستعارات هذه الثروة، التي زادت مكانتها رفعة، وآدابها بهاء وسناء.
(١) ليس هذا المذهب باقرب ولا أنفع - ولو قليلاً - من مذهب من ينكر وجود المجاز في اللغة، بزعم أن الواضع وضع الأسد للرجل الشجاع، كما وضعه للحيوان المفترس، ووضع الغيث للنبات كما وضعه للمطر.