يجرّون البرود وقد تمشت ... حُمَيّا الكأسِ فيهم والغناءُ
تمش بين قتلى قد أصيبت ... مقاتلُهم ولم تُهرقْ دماءُ
فهذا الشعر يصور لك من دارت نشوة السكر والغناء برؤوسهم، فأجهزت على البقية من شعورهم، في صورة قتلى لم تهرق دماؤهم، بل زهقت نفوسهم بمثل خنق، أوسقاء سم دبَّ دبيب الخمر في مفاصلهم.
ثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس؛ كما في قول الشاعر:
مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت علامَ تنتحب الفتاةُ
فقالتْ: كيف لا أبكي وأهلي ... جميعاً دون خلق الله ماتوا
تصوَّرَ المروءة في زي فتاة، فتسنى له أن يسند إليها البكاء، ويعقد بينه وبينها هذه المحاورة.
ثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول، وهذا كمن تخيل المذلة في معنى الكفر، فقال:
أمطري لؤلؤاً جبال سرنديـ ... ب وفيضي جبال تكرور تبرا
منزلي منزلُ الكرام ونفسي ... نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرا
رابعها: تخيل المحسوس في صورة المعقول، وهذا لم نعثر له على مثال في كلام العرب، ولكن التشبيه الذي هو أساس هذا الفن قد جرى في كلام المولَّدين بإيراد المحسوس في معرض المعقول؛ كقول التنوخي:
فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
وقول الفاروقي:
تمر مع الأتراب بالخيْفِ من منًى ... مرورَ المعاني في مفاوز أفكاري