للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"فلعنة الله على المحراث هاهنا ما أقبحه وأركه! ". ولم يبق سوى النظر في عدم تنبههم لذلك القبح، وكيف خفي عنهم وجهه، وهو كاشف لثامه، حتى بلغ وضوحه في بعض الأبيات أن لا يمتاز بإدراكه الأدباء عن غيرهم.

والوجه في هذا: أن البصيرة مثل البصر، والمشاهد للصورة عن عيان قد يفوته أن يحدق فيها من بعض الجهات، فلا يشعر بما فيها من عيب، فكذلك الشاعر قد يصوغ المعنى، ولا يأخذه بالنقد من جميع أطرافه، فيصدر على عوج قد يبصر به من هو أضعف بصيرة منه، والعلة في عدم تنبه الشاعر لذلك الخلل: قصر المدة فيما بين إنشاء القصيدة، وإراءتها للملأ؛ بحيث لا يتمكن من تجريد نظره إلى كل بيت، ونقد معناه من سائر وجوهه.

وربما أصيب الشاعر من اعتماده على براعته ومكانة سمعته؛ إذ كثيراً ما يستفيد الشاعر من المقام والشهرة التي يدركها بين قومه، فيتلقون شعره باستحسان فوق ما يتلقون به شعر غيره ممن لم يقم لهم صيت، وإن كان في نفسه أبعد أمداً، وأحكم نسجاً، فكثرة الإجادة وسعة الذكر قد تؤثر في همة الشاعر في بعض الأحيان، فيلقي القصيدة على علاتها، ولا يحمل نفسه على التدقيق في نقدها. ومن ثمّ ترى أكثر الذين يقعون في هذه العثرات، إنما هم كبار الشعراء، والمكثرون منهم؛ كأبي تمام، والمتنبي، ومن كان في طبقتهم.

ويؤكد لك أن سيئات الشعراء في هذا الصدد، إنما لصقت بهم من جهة عدم نقدهم المعنى بعد أن تقذفه القريحة نقداً وافياً، إما لضيق الوقت، أو اغتراراً بما ملكوا من البراعة، وأحرزوا من الشهرة: أن أحدهم قد ترسل قريحته معنى، فيقع منه موقع الإعجاب، حتى إذا أعاد إليه النظر مرة ثانية، انكشف له من مساويه ما يجعله في أسف على إذاعته، أو في ارتياح من عدم