وانبرى جنحُ الدجى عن صبحهِ ... كغرابٍ طار عن بَيضٍ كَنين
وقد يذهب الشاعران إلى محاكاة أمر، فيحاكيه أحدهما ناظراً إليه بانفراده، ويحاكيه الآخر ناظراً إليه في حال اقترانه بأمور أُخرى، فلا يحق لك متى قايست بينهما، ورأيت الأول أحكم، أن تقضي لصاحبه بالرجحان؛ إذ قد تكون محاكاة الثاني إنما جاءتها الجودة من ملاحظة ما اتصل به من المعاني، ولولا هذه المقارنة، لم يقدم صاحبه على هذه المحاكاة. ربما تسمع أن أبا جعفر الأندلسي خيل أصوات الحمام في الصباح بالخصام، فيبدو لك أن تشبيهها بالغناء أو النواح أقرب إلى الجودة، وأشد مطابقة لحالها، ولكنك إذا وقفت على قوله:
فالصبحُ قد ذبح الظلامَ بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائمُ فيه
أدركت جودة التخييل التي أحرزها بما انضم إليه من تمهيد سبب الخصام، وهو اعتداء الصبح على الظلام، وقتله بالنصل ذبحاً.
يعدون في تخيلات (فكتور هيغو) تشبيهه الموج بالغنم، فإذا قيل لك: إن الشاعر العربي معروف الرصافي قد شبهه بالرجال، حسبت أنه وقع التشبيه إلى الحضيض، حتى إذا قرأت قوله يصف قصر البحر في بيروت:
كأن الموجَ في الدأما رجالٌ ... وهذا القصر بينهم خطيبُ
تخاطبهم مبانيه فيعلو ... من الأمواجِ تصفيقٌ رحيب
تيقنت أن الرجل قد ذهب في التخييل البديع إلى الدرجة القصوى. فتشبيه الموج بالغنم هو أحكم من تشبيهه بالرجال متى نظرت إليه مستقلاً،