للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فعذرهم في ذلك: أنهم لم ينفذوا في مسالك الفلسفة، ولم يعودوا أنفسهم التنقيب عن المعاني الغامضة، وإنما كانوا ينطقون بالشعر على البداهة، فمن وقفت له على معنى رائع؛ كقول النابغة يخاطب النعمان بن المنذر:

وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ

فقد لفظته قريحته عفواً، وانساق إليها بدون إجهاد نظر، ومن ثم كانت أمثال هذا التخيل الجيد نادرة في أشعارهم، ولو كانوا ممن يذهب في صوغ المعاني إلى إزعاج الفكر، وحثّه على استخراجها من مغاصها العميق، كما يفعل المولدون، لظفرنا له بنظائر لا تحصى، ثم إن فن التخيل كسائر الملكات والصنائع، إنما يترقى شيئاً فشيئاً، ويتكامل يوماً فيوماً، فتطلع لزهير ابن أبي سلمى مثلاً على تخيلات لا تظفر بها في أشعار من تقدموه بأمد بعيد، فالعهد الذي يعبر فيه هذا الشاعر عن معنى أن من لم يجب إلى الأمر الصغير يقع تحت وطأة الأمر الكبير بقوله:

ومن يعصِ أَطرافَ الزَّجاج فإنه ... يطيع العوالي ركِّبت كلَّ لهذمِ

لا يصح أن يكون من أوائل العصور التي ظهر فيها التخيل الشعري، فهذه الغاية من حسن البيان لا يدركها الناس بفطرتهم إلا بعد أن يتقلبوا في سبيلها أطواراً، ويقضون في السير إليها أحقاباً، كما أن ابن سفر الأندلسي لو نشأ في البيئة والعصر اللذين نشأ فيهما زهير، لم يسهل عليه أن يصف نهر إشبيلية الذي يصعد فيه الماء مسافة بعيدة، ثم يحسر بقوله:

شقَّ النسيمُ عليه جيبَ قميصه ... فانساب من شطيه يطلبُ ثاره

فتضاحكت وُرْق الحمام بدوحها ... هزءاً فضمَّ من الحياءِ رداءه