ثم بزغت شمس الإسلام، وكان من أساليب القرآن في الدعوة أن ضرب الأمثال الرائعة، وصاغ التشابيه الرائقة، والاستعارات الفائقة، والكنايات اللطيفة، ويضاف إلى هذا: ما كان ينطق به الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الأقوال الطافحة بالأمثال والاستعارات والكنايات، التي لم تخطر على قلب عربي قبله، فكان مطلع الإسلام مما زاد البلغاء خبرة بتصريف المعاني، وترقى بهم إلى منزلة سامية في صناعة التخييل.
أخذ الخيال يتقدم بخطوات أوسع مما كان يسير به في الجاهلية، ولكن الأدباء إلى أواخر عهد الدولة الأموية، لم يبعدوا عن طرقه المعهودة، ويغيروا أساليبه تغييراً يشعر به كل أحد. فلو قال قائل: إن عبدالله بن الدمينة، أو عمر ابن أبي ربيعة، أو جميل، أوكثير، شاعر جاهلي، لم يكن لك أن تدخل إلى مغالبته وإبطال دعواه بإقامة الحجة من مناهج تخيلاتهم؛ كأن تجلب له من أشعارهم أمثلة ينكشف بها جلياً أنهم ساروا في التخيل على نمط لم ينسج عليه الجاهلية، ولكنك إذا نظرت في مجموعة الشعر الجاهلي، ثم وازنته بمجموعة الشعر الإسلامي، تيقنت أن الخيال قد بعد شأوه، واتسع نطاقه؛ لأنك تقف على تصرفات كثيرة من تشابيه مبتكرة، واستعارات لم يحم عليها شعراء الجاهلية، وإن كانت مفرغة في قوالبهم، مرسومة على خططهم.
ثم ظهر في أوائل عهد الدولة العباسية مثل بشار، وأبي العتاهية، وأبي نواس، وعبد السلام الملقب بديك الجن، فأصبحت مسافة الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي واضحة لكل من له أدنى بصيرة، فلو ادعى مدع أن ديك الجن شاعر جاهلي، أو من شعراء صدر الإسلام، لكفاك في إفحامه أن تتلو عليه نبذة من شعره الذي أوغل فيه إلى حد يبدو عليه أثر التصنع؛