كالبيت الذي أعجب به أبو نواس، وقال له عندما اجتاز بحمص: إنك قد فتنت به أهل العراق، أعني قوله يصف الخمر:
مورَّدةٌ من كفِّ ظبي كأنما ... تناولها من خدِّه فأدارها
وجاء بعد هؤلاء ابن المعتز، وابن الرومي، ومسلم بن الوليد، وأبو تمام، وقد استحكمت عرا المدنية، وتجلت لهم الحضارة في أجلى مظاهرها، فكانوا أكثر ممن تقدمهم تفنناً في صناعة التشبيه والاستعارة، وما يلحق بها من تصرفات الخيال؛ كالتورية، والمقابلة، وحسن التخلص من غرض إلى آخر. وهذا لا يمنعك أن تقضي للسابقين بأنهم أقوى عارضة، وأدرى بصناعة الشعر من ناحية سبك الألفاظ، ومتانة بنائها.
وبعد أن عني الناس بالنظر في شؤون الكون، وسلكوا في البحث عن أسراره طريقاً فلسفياً، أخذ الخيال الشعري يعمل في الحقائق الفلسفية، ويجري وراء الفكر كالمسعف له في تصوير تلك المعاني الغامضة؛ كما تراه في مثل قصيدة ابن سينا في النفس المفتتحة بقوله:
هبطت إليك من المحل الأرفعِ ... ورقاءُ ذاتُ تعزُّزٍ وتمنعِ
وقصيدة المعري المفتتحة بقوله:
غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولاترنُّمُ شادِ
وقول أبي بكر بن الطفيل يصف حال الروح والجسد:
نورٌ تردد في طين إلى أجلٍ ... فانحاز علواً وخلىّ الطين للكفن
ياشدَ ما افترقا من بعدما اجتمعا ... أظنها هدنةً كانت على دَخَنِ
إن لم يكن في رضا الله اجتماعُهما ... فيالها صفقةً تمت على غبنِ