عن سنن كونية ثابتة، أو التطورات التي يأتيها الناس برجاحة عقل، وسلامة ذوق، أما التطورات الحادثة عن أهواء أو جهالة، فهي التي تجيء الشرائع، وتؤلف الكتب، وتلقى الخطب لمحاربتها، وتطهير الأرض من أرجاسها، وإن لبسها الرؤساء ومن في الأرض جميعاً.
ولعل بعض السادة الحاضرين يلاحظون أنا سقنا أمثلة الخطابة وما يقابلها من فنون القياس على غير الطريقة المعروفة في درس القوانين المنطقية، فلم نقل - مثلاً -: تونس مملكة شرقية يقبض على زمامها رجال فرنسيون، وكل مملكة شرقية يقبض على زمامها رجال فرنسيون فهي غير مستقلة، النتيجة تونس غير مستقلة.
وعذرنا فيما سلكنا: أن هذه المقاييس لا ترد في المخاطبات التي تراعى فيها قوانين البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين، أو النتيجة؛ أي: محذوفة ما تدل عليه قوة الكلام تفصياً من وصمتي التكرار والإطالة لغير جدوى.
ويراد من الخطابة: القوة الصانعة للأقوال المقنعة. وعلى هذه البابة رسمها أرسطو، فقال: هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة.
ومعنى هذا: أن الخطابة قوة يطيق صاحبها إقناع المخاطبين في كل شيء يدعي أنه غرض صحيح، والإقناع تقوية الظن، وهو ما تعتمد عليه صناعة الخطابة.
وإنما وصف الإقناع بالإمكان، فقال:"تتكلف الإقناع الممكن"؛ لأن شأن هذه الصناعة إعداد النفوس لعمل الإقناع، وإن لم تبلغ غايتها القصوى.