ولم يحاول المحاضر هنا إقامة الدليل على أن قدامة إنما أسلم لينال الخطوة عند الرؤساء، لا لأنه بصر بالحجة، واهتدى إلى أن الإسلام دين القيمة، ولعله يوفق إليه في محاضرة أخرى.
ونحن لا نستطيع أن نقول في هذا شيئاً سوى أن المحاضر يريد أن يقضي وطر التملق لأهل ديانة أخرى؛ إذ لا نجد في تاريخ قدامة ما يثير الشبهة في أنه أسلم بإخلاص، وقد أسلم قدامة على يد المكتفي بالله، والمكتفي بالله من خلفاء بني العباس الذين لا يبخلون بالحفاوة لديهم عن نصراني يجدون عنده أثارة من علم، وقد كان المكتفي من قبل أن يتقلد الخلافة قد اتخذ كاتبًا نصرانيًا اسمه: الحسين بن عمرو، وهذا ابن جرير الطبري يقول في "تاريخه": لما توفي المعتضد، ووصل الخبر إلى المكتفي، وكان مقيمًا بالرقة، "أمر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعة على من بعسكره، ففعل ذلك الحسين".
ثم قال المحاضر:"ونحن نلاحظ عندما نقرأ كتاب قدامة: أنه قد قرأ ما كان معروفاً عند العرب من الأدب العربي الخالص، وما كان الشعراء قد استكشفوه من أنواع البديع، كما أنه قد قرأ ما كان معروفاً في ذلك الوقت من فلسفة أرسطاطاليس وشعره وخطاباته. وقال: "إن قدامة قد تأثر باليونان، وأخذ عنهم ما كتب من قواعد البيان في كتابه: نقد الشعر".
قدامة ضربَ في نقد البيان بسهم، وخطا به خطوة واسعة، ولكنها ليست من الغرابة بحيث تحملنا على فرض أن تكون مستمدة من بيان اليونان، بل إن ذلك المقدار الذي نتج من أقوال البلغاء، وأبحاث علماء العربية، وما وضع عبد الله بن المعتز، إذا انتهى إلى المعنى جلس إلى علماء اللغة حيناً من الدهر