ادّعى المؤلف -فيما سلف- أنه استنبط من القرآن شيئاً خفي على القدماء، وهو أن للأمة العربية ديناً، وفيها طبقة مستنيرة، وادّعى في هذا الموضع: أنه انتزع من القرآن صورة أخرى، ووصفها بأنها ستدهش الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة الجاهلية، وسيعرض هذه الصورة المدهشة في قوله: إن العرب قبل الإسلام أصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها، مؤثرة فيها.
ابتدأ في تقرير هذه النظرية بدعوى أن الذين تعودوا أن يعتمدوا على الشعر الجاهلي، يعتقدون أن العرب في جاهليتهم كانوا في عزلة وانقطاع عن العالم الخارجي، لا يسمعون عنه خبراً، ولا يعرف لهم شأناً.
وهل يصدّق أحد أن من يدرسون الشعر الجاهلي يتصورون العرب أمة معتزلة في صحراء من الأرض، لا تعرف عما وراء حدودها من أحوال الأمم شيئاً؟ ومن أين يأتيهم هذا التصور، وهم يجدون في هذا الشعر الجاهلي والأخبار المتصلة به ما يحدثهم بأن من الشعراء -وهم زعماء القبائل- من كانوا يسافرون إلى الشام، وإلى اليمن، بل إلى فارس، وإلى القسطنطينية، تجد هذا في شعر عمرو بن كلثوم، وامرئ القيس، وأمية بن أبي الصلت، والأعشى ميمون بن قيس.
هم يعرفون أشياء تبرئهم من أن يتصوروا العرب أمة ملقاة في فلاة من الأرض، ألم يدرسوا قول عمرو بن كلثوم:
وكأس قد شربت ببعلبكّ ... وأخرى في دمشق "اللّذ تلينا" (١)