سوق عكاظ وذي المجاز ومجنّة من ديارهم؛ إذ كانت القبائل تفد عليها في موسم الحج، وتتخذ فيها معرضًا لمصنوعات القرائح، ونوادي للتفاخر بالأحساب والأنساب، أو التقاذف بالوعيد والهجاء، وهذا ما يضع لغات العرب بين يدي قريش، فتلقط منها ما يستخفه السمع، ويتسوغه الذوق، ومن المعقول أن تكون هذه المحافل الأدبية أفادت لغة قريش، وزادتها فصاحة على فصاحتها، وتقدمت بها على سائر لغات العرب شوطًا بعيداً.
وإذا قامت في قلب الجزيرة لغة قبضت على أعنة الفصاحة، وكان للناطقين بها مظهر من مظاهر السؤدد، فمن سنّة تقليد الأفضل والأجود أن تنزل القبائل إلى محاكاة لهجة قريش، ونسج الكلام على منوالها، وأول من يسبق إلى هذا الشأن ذوو الفكر المنتج، والخيال الواسع، والمعاني الغزيرة، وهم الخطباء والشعراء.
فتقارب الشعراء في اللهجة جاء من جهة محاكاتهم بالشعر أفصح لهجة وأشهرها بين القبائل، وهي لغة قريش. قال أبو إسحاق الشاطبي في "شرح الخلاصة"(١): "فإن الحجازي قد يتكلم بغير لغته، وغيره يتكلم بلغته، وإذا جاز للحجازي أن يتكلم باللغة التميمية، جاز للتميمي أن يتكلم باللغة الحجازية، بل التميمي بذلك أولى". ومما قال في توجيه هذه الأولوية:"أن الحجازي أفصح، وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعًا من العكس".
فرغبة الشعراء في أن يكون لشعرهم جولة في البلاد العربية بأسرها، ووجود لهجة تشهد القبائل موطنها، وتألفها أسماعهم، وترتاح لها نفوسهم،