ونحن نعرف ما للإسلام من تأثير في تقارب اللهجات، وهذا لا يمنع من أن يكون سبب آخر طبيعي قد وجد قبل ظهور الإسلام، فساق ذوي العقول المنتجة من هذه القبائل إلى أن يشتركوا في لغة يصوغون فيها الأشعار والخطب مسجعة أو مرسلة، وقد ذكرناك بسبب يصح أن يكون السائق إلى هذه اللغة الأدبية، وهو فصاحة لسان قريش، وتلك المجامع التي كانت تنعقد حوالي مكة، وتؤمها القبائل للتفاخر بالأحساب، أو التنافس في حلبة البيان.
ضرب المؤلف لذلك الجواب ثلاثة مُثُل:
أولها: أن الدوريين كانت لهم لهجة وأوزان دورية، ولما ظهرت أثينا على البلاد اليونانية عامة، عدلوا عن لهجتهم وأوزانهم إلى اصطناع اللهجة والأوزان اليونانية، والنثر الأتيكي.
ثانيها: أن لكل إقليم في فرنسا لغة ذات قوام خاص، ومع ذلك، فأهل الإقليم إذا أرادوا أن يظهروا آثاراً أدبية، يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية.
ثالثها: أن في مصر لهجات وأوزاناً مختلفة، ومع هذا، فإن من ينظم الشعر الأدبي، ويكتب النثر الأدبي يعدل عن لهجته الإقليمية إلى هذه اللغة لغة قريش ولهجتها. وقد أخذت المؤلف عند ضرب هذا المثل نشوة فاتح البلاد بعد حروب عنيفة، فافتتحه بقوله في (ص ٣٧): "وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلاً آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب".
لندع البحث في هذه الجملة من جهة صلتها بنفس كاتبها، ودلالتها