أن لا تكون هذه الدقة في الموازنة نتيجة من نتائج المصادفة، وإنما هي شيء تكلف وطلب، وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي؟ ".
كانت سوق الأدب في البلاد العربية قائمة، وبضاعة الشعر نافقة. قرائح ترسل المعاني نظمًا، وقلوب سرعان ما تحيط به حفظًا. ويساعد القرائح على ما تصدر من الشعر، والقلوب على ما تعي من بدائعه، أن ليس هناك علوم كثيرة، وفنون شتى تتجاذب القرائح، ويذهب كل منها بنصيب من الفكر، أو يحوز ناحية من القلب. فعلى الباحث في تاريخ الأدب أن يدرس حال العرب كأنه يعيش بين ظهرانيهم، ولا يتسرع إلى إنكار أن تصدر ربيعة أو قيس أو تميم من الشعر في عصر أكثر مما تصدر الشام أو مصر أو العراق في مثله. على أن إقامة الشاهد في تفسير القرآن غير موقوف على الشعر الجاهلي، بل يتناوله العلماء من شعر من نشؤوا في الإسلام؛ كالفرزدق، وجرير، والأخطل، وعمر بن أبي رييعة. ومن التفت في تاريخ الأدب يميناً وشمالاً، ونظر إلى كثرة من نبت في البلاد العربية من الشعراء جاهلية وإسلامًا، عجب لفقدهم الشاهد لكلمة غريبة في القرآن، أو وجه من وجوه إعرابه، أشدَّ من عجبه لوقوع يدهم عليه كلما نقبوا عنه، فمن النظر الخاسئ أن نحكم على هذه الشواهد بالاصطناع، وندخل إلى الحكم عليها من باب موازنتها للمستشهد عليه بزعم أن هذه الموازنة منافية لطبيعة الأشياء.
فإذا كان القرآن وارداً بلسان عربي مبين، وكانت المواضع التي يحتاج في بيانها إلى الشاهد معدودة، وكان الشعر العربي في ثروة طائلة، أفيصدق أحد أن سوق بيت يطابق المعنى المستشهد عليه مناف لطبيعة الأشياء!.
الصواب أن نذهب في نقد هذه الشواهد من نواح غير هذه الناحية؛