والصواب: أن من ينظر في هذا الشعر الجاهلي بشيء من التدبر، وينظر في حضارة القبائل التي عاش فيها أولئك الشعراء بأي مرآة شاء، وعلى أي مطلع تسنى له، لا يستطيع أن يدرك تفاوتًا بين هذا الشعر وتلك الحضارة، إلا إذا اشتد حرصه على أن يقول: إن هذا الشعر ليس من الجاهلية في شيء.
فهذا الشعر الجاهلي يمثل من الحضارة ما يمثله شعر الإسلاميين قبل أن تلبس البلاد العربية ثوب الحضارة الذي نسجه فاتحو بلاد قيصر وكسرى، ولا ينبغي لأحد أن يزعم أن الحضارة في الجاهلية كانت أجلى مظاهر، وأوفى وسائل من حضارة العرب لعهد ظهور الإسلام.
يقول المؤلف: إن هذا الشعر لا يمثل لغتهم، وهو إنما يبني هذا القول على نظرية العزلة العربية، ونظرية جهلهم وغباوتهم وتوحشهم، ولو نظر إلى أن في الأمة العربية علماً وذكاء، ونظر إلى أنها كانت ترتبط بصلة التعارف، وتعقد مجامع تشهدها القبائل على اختلاف أوطانها، لسهل عليه أن يفهم كيف تكوّنت على طول الأيام لغة أدبية تتناولها ألسنة البلغاء حين تنطلق في شعر أو خطابة.
فالشعر الجاهلي يمثل اللهجة التي يتحراها الشعراء لتضرب قصائدهم في اليمين واليسار، وتسير مسير المثل، لا تقف في واد، ولا يختص بها قوم دون آخرين. وقد يظهر على لسان الشاعر أثر من لهجته الخاصة، وربما غيّره الرواة إلى اللهجة الأدبية من غير أن يخسر وزن القصيدة حرفاً.
يقول المؤلف: ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت هذه النظرية أن نتبين