النبوية صغيراً أو كبيراً. دخل في الرواية الوضع لأسباب بسطناها في مقدمة "المغني عن الحفظ"، أما أن يعمد الرواة إلى أن يحذفوا من السيرة النبوية ما وقع إلى أسماعهم، فذلك ما لا يتصوره العارف بحقيقة الرواية.
فمن توجه قصده إلى شيء يتصل بالسيرة النبوية، فليبحث عنه في كتب الآثار، وتاريخ عهد النبوة، فإنه يجد فيها الموثوق بروايته ما أمكن للجاهلين والمنافقين إلصاقه بأكمل الخليقة، ويرى قواعد أهل الحديث كيف تعمل في الروايات، فتدفع هذه الرواية إلى اليمين، والأخرى إلى الشمال.
ليس في الروايات صحيحها وأساطيرها أثر يدل على أن النبي - عليه الصلاة والسلام - بارح مكة قبل البعثة، وغاب عن قومه، إلا ما روي من خروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام خطرة، وسفره في تجارة لخديجة بنت خويلد خطرة أخرى. فلا يستقيم لأحد ادعاء أنه تعفم القراءة، ودرس التوراة والإنجيل مدة مغيبه عن مكة وقومُه لا يشعرون، فإن لسفر التجارة أياماً معدودة لا تكفي لدرس ديانة أو ديانتين، لا سيما بعد أن تطّرح منها أوقات الاشتغال بشأن التجارة، وما حال المسافرين للتجارة منا ببعيد.
ولا يصح لأحد أن يدعي أنه - عليه الصلاة والسلام - تعلم كتب اليهود والنصارى، ومذاهب بين بين في مكة، وعلى مرأى من قومه، إذ لو وقع شيء من هذا، لم يجيء في القرآن آيات تصفه بعدم القراءة والتلقي من البشر، ولو جاءت هذه الآيات، وكان قد تعلم من يهودي أو نصراني، لم يجد من قومه وعشيرته الذين رأوه يقرأ ويتعلم أنصاراً إلى الله يؤمنون به، ويجلسون بين يديه كأنما على رؤوسهم الطير.