للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن تحاكي به طريقة شاعر بعينه.

وهذا الطريق من النقد لا يسهل على كل من حفظ الأشعار، أو بحث في غريبها وإعرابها، وإنما يستطيعه في كل عصر طائفة درست منشآت البلغاء، وتقلبت في فنون البيان أطواراً، وألقت على منظوم كل شاعر نظرات خاصة، حتى تعرف نزعته، وتدري كيف يأخذ في تأليف الألفاظ، وفي أيّ صورة يركبها، فيستطيع المضي في هذا الطريق من النقد أمثال: الأصمعي، والجاحظ، وأبي الفرج الأصبهاني، وإذا قالوا في وصف أحد أهل العلم كما قالوا في أبي الخطاب الأخفش: "وكان أعلم الناس بالشعر، وأنقدهم له" (١)، فإنما يقصدون -فيما أحسب- هذا الفن من النقد بوجه خاص.

وإذا كان القدماء في هذه المقدرة على صناعة النقد، وأضفنا إليها عنايتهم بالنظر في حال الراوي، ذهبنا في ظننا أن هذا الشعر الذي يعزوه الرواة الثقات إلى الجاهلية، ولم ينقدوه بنظر خاص أو بوجه عام، هو من الجاهلية في شيء، وأريد من الوجوه العامة للنقد أمثال طعنهم في أمانة بعض الرواة، وتنبيههم على عدم الثقة بنسبة شعر إلى من قدم عهده في الجاهلية، فكل ما ينسب لقديم العهد في الجاهلية يعد في نظرهم مرتاباً فيه، بل قد يسميه بعضهم: منحولاً، وشاهد هذا: أنهم قالوا: إن سيبويه قد يمتنع من تسمية الشاعر؛ لأن بعض الشعر يروى لشاعرين، وبعضه منحول لا يعرف قائله؛ لقدَم العهد به (٢)، وقد عرفتم أن سيبويه وغيره يستشهدون بهذا النوع من


(١) "الموشح" (للمرزباني).
(٢) "الخزانة" (ج ١ ص ١٧٨).