المعروف في سنّة البحث: أن الكاتب إذا دعاه الموضوع إلى التعرض لمنثور أو منظوم، وجدته يتناول الحديث عنه من الناحية الملائمة لهذا الموضوع، ويملك نفسه عن أن يأتيه من ناحية لا تلتقي مع البحث في سبيل. والمؤلف لا يأخذ بهذه السنّة، على الرغم من استنارتها، ودلالتها على رسوخ الكاتب في العلم الذي يبحث فيه.
يفاتحك هذا المؤلف بالحديث عن الشعر الجاهلي في هيئة الباحث المخلص، فتظن به خيراً، وتلقي إليه سمعك وأنت شهيد، ثم لا يلبث في البحث بضعة أسطر حتى يخرج بك إلى أن يقضي حاجة أخرى، وما هي إلا طعن في هداية، أو تشويه حقيقة، أو ارتياح للخروج عن فضيلة.
يتحدث المؤلف في هذا الفصل عن شعر طرفة من ناحية نسبة هذا الشعر إليه، حتى وصل إلى أبيات:"فما زال تشرابي الخمور ولذتي"، وكان نظام البحث يقضي عليه أن يخوض في هذه الأبيات من الجهة المتصلة بإضافتها إلى طرفة، ولكنه لم يتمالك أن نبذ الموضوع وراء ظهره، وأقبل يحدثك عن مذهب اللهو واللذة، وعما في هذا الشعر من شخصية واضحة الإلحاد، وما فيه من إباحة قال عنها: إنها مقتصدة معتدلة، وجعل يصف صاحب هذه الشخصية بأنه صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها، وأسف إذ لم يعثر على مثل هذا الشعر فيما يضاف إلى الجاهليين إلا نادراً، ولإعجابه بمعاني هذا الشعر، أخذ يحثو عليه المدح بملء فمه، ويقول لك: إنه شعر حق، فيه قوة وحياة وروح. ولم يكفه أن يتسلل من مقام البحث إلى الحديث عن اللهو واللذة والإلحاد، فصاح قائلاً لك وهو في نشوة من هذا الحديث:"وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر"، يقول هذا، وهو لم يسق الأبيات إلا بمناسبة البحث في أن طرفة قال هذا الشعر، أو لم يقله.