وأما البيت الثاني، وبيت الفرزدق (١)، فلا حرج علينا أن نطوي بساط المناقشة دونهما؛ إذ المسألة تقرير مذهب في أحد المباحث العلمية أو الدينية، وحق هذا المقام ألا يوثق فيه بأقوال الشعراء، بعد أن عرفنا في فن البديع أن كلامهم ينقسم إلى؛ مبالغة، وإغراق، وغلوّ، ومع هذا الوجه الكافي في طرحهما من حساب تلك الشبه الواهية نقول: إن معنى البيتين لم يكن ناشئاً عن عقيدة خاصة في الخليفة والخلافة، وإنما هو مبني على العقيدة العامة؛ من أن ما كان خيراً وصلاحاً، تتعلق به الإرادة على وجه الرضا والمحبة، وهذا ما يدعيه الشاعران في ولاية ممدوحيهما، وقد يقولان ذلك وهما يعتقدان أن مدحهما غير مطابق للواقع، وأين هذا من تلك الدعوى الواسعة، وهي الاعتقاد بأن الله هو الذي يختار الخليفة؟! ولو تعلّم المؤلف تأويل الأحاديث، وتلا قوله تعالى:{وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}[المائدة: ٢٠]، وقوله:{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}[آل عمران: ٢٦]، وقوله:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}[يوسف: ١٠١] لم يلتبس عليه قول الشاعر: "إذ ولّاكها"، أو يجره إلى شبهة أقرب إلى العدم من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
قال المؤلف في (ص ٨): "ولقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة، مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغاتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية، أو قريباً منها، حتى قال قائلهم:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ ... فاحكمْ فأنت الواحد القهارُ
(١) هَمَّام بن غالب. بن صعصعة التميمي (... - ١١٠ هـ = ... -٧٢٨ م) من فحول الشعراء، من أهالي البصرة، وتوفي في باديتها.