بسلطة دار الندوة بمكة، وحاربها حتى خضد شوكتها، واستأصل جرثومة فسادها، ولم يعترف بسلطة قيصر، وأخذ يعدّ ما استطاع من قوة ليدفع شره، ويقوض دعائم ملكه.
قال المؤلف في (ص ١٩): "وإذا كان صحيحاً أن النبي- عليه الصلاة والسلام - قد أمرنا أن نطيع إماماً بايعناه، فقد أمرنا الله تعالى كذلك أن نفي بعهدنا لمشرك عاهدناه، وأن نستقيم له كما استقام لنا، فما كان ذلك دليلاً على أن الله تعالى رضي الشرك، ولا كان أمره تعالى بالوفاء للمشركين مستلزماً لإقرارهم على شركهم".
دعوى أن الأمر بطاعة ولي الأمر لا يدل على طلب ولايته، كما أن الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه لا يدل على الشرك، تمثيل يمشي براكبه إلى وراء؛ فإن أقل ما في الصورة الأولى: أن المجتهد ينظر في طاعة أولي الأمر، فيفقه أنها لم تقصد لذاتها، ولا لمجرد الخضوع للأمراء، وإنما يراد بها: مصلحة وراء ذلك كله، وهي المساعدة على إقامة الحقوق، وانتظام شؤون الجماعة. ولا شك أن هذه الغاية تتوقف على نصب الأمير؛ كما تتوقف على حسن طاعته، فيصح أن يقال: إن الأمر باطاعة أولي الأمر نبه على طلب ولايتهم، وإن المجتهد أتى إلى وجوب نصب الإمام من طريق النظر في الأمر بطاعته.
أما الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه، فخارج عن السبيل. لأن علته ترجع إلى الاحتفاظ بنوع من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وهو الصدق والثقة اللذان يقوم عليهما شرف المعاملات، ونظام السياسات. ويتضح جلياً: أن هذه الحكمة يختص بها الوفاء بالعهد، ولا يشاطره فيها الشرك بالله، ولا المعاهدة التي هي موكولة إلى اجتهاد صاحب الدولة.