به جيلاً بعد جيل، أن الصحابة - رضي الله عنهم - عقب انتقال صاحب الرسالة - صلوات الله عليه - إلى الرفيق الأعلى، وقبل مواراة جثته الشريفة في قبره الكريم، بادروا إلى الائتمار بتعيين إمام، ولم يجر بينهم خلاف في حكم إقامته، وإنما تنازعوا في مبدأ المفاوضة شيئاً قليلاً في اختيار الشخص الكافي لهذا المنصب، ثم تضافروا على مبايعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ومن تخلف عن المبايعة لم يذهب إلى الخلاف في وجوب نصب الإمام، وإنما هي الموجدة؛ لعدم إيثاره بالإمارة، أو لإنجاز المبايعة دون حضوره، وقبل أخذ رأيه في جملة المؤتمرين، وكذلك كان شأنهم في الاهتمام بأمر الخلافة لعهد سائر الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ومن يتخلف عن بيعة خليفة، فلعذر يرجع إلى عدم وفاقه على بيعة الشخص المعين، ولم ينقل عن أحد أنه توقف في وجوب نصب الأمير العام، أو قال:"ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا"، مع أن المحدثين والمؤرخين ينقلون ما يدور في المحاورة بين أهل الحل والعقد، وما يقع من وفاق، وما يصدر عنهم من أقوال وآراء، ليس لها أهمية إزاء القول بعدم وجوب نصب الإمام، لو خطر على قلب رجل منهم.
ومن الباطل أن يقال: إنما سكتوا عن إبداء رأيهم في وجوب الخلافة رهبة من القوة المسلحة، فإن العصر الذي صدع فيه عبد الرحمن الأصم، ونجدة بن عامر بعدم وجوب نصب الإمام، لم تكن حرية الرأي، ولا سعة صدر السياسة فيه بأحسن حالاً من العهد الذي يقوم فيه الرجل، ويجابه الخليفة بقوله: لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا.
قال المؤلف في (ص ٣٣): "نعم، بقي لهم دليل آخر لا نعرف غيره، هو آخر ما يلجؤون إليه، وهو أهون أدلتهم وأضعفها. قالوا: إن الخلافة