وكذلك قضايا المسلمين لعهد النبوة؛ فإن أغلبها من قبيل الاستفتاء، أما المشاجرات الناشئة عن التجاحد، فنادرة جداً.
قال الحافظ ابن تيمية:"ولو عدّ مجموع ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا النوع -يعني: ما قام عن تجاحد- لم يبلغ عشر حكومات".
هذا سبب قلة ما تحمله الرواية من القضايا التي رفعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجاوزت حدّ الاستفتاء، ويضاف إلى هذا: أن أحكام الشريعة كانت تطبق بعزم وإخلاص، وهذا يقتضي بوجه خاص أن تقل القضايا المتعلقة بالجنايات، وقلة القضايا لعهد النبوة لا تجعل حال القضاء مبهمة؛ فإن الأدلة بجملتها تعطينا صورة بيّنة لسنّة القضاء الكافلة بإقامة العدل وصيانة الحقوق.
قال المؤلف في (ص ٤٠): "لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - غامضة ومبهمة من كل جانب، حتى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولّى - صلى الله عليه وسلم - أحداً غيره القضاء، أم لا؟ ".
لم تكن حال القضاء في عهد النبوة غامضة ولا مبهمة، فقد أريناك أن ما بين أيدينا من الكتاب والسنّة الصحيحة يجعلنا على بصيرة من سنّته المتبعة لذلك العهد، وليست الشواهد على هذه السنن بالشيء القليل، حتى تسعه هذه الورقات المقصود منها تنبيه سليم الفطرة كي لا يفتتن ببهرج ذلك الكتاب وزخرف قوله غروراً. وسيمرّ نظرك على أمثلة من سنن القضاء الإسلامي في غير هذا المقام.
ومن السهل على الباحث الذي يذهب إلى الحقائق من طرقها المعقولة، أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يولّي على كل قوم مسلمين من يدبر أمرهم، ويقضي فيما شجر بينهم، ولو لم يرد في التاريخ إلا أسماء الأشخاص الذين قلدهم