دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولّ قضاة يفصلون الخصومات، ولم ينصب ولاة لتدبير أحوال البلاد، من بنات فكر المؤلف وحده، فهو الذي اخترعها، دون أن يسبقه إليها ألمعي خبير، أو بحاثة بصير، وإذا كان كل رأي جديد -حقاً كان أو باطلاً- يخف بصاحبه إلى منزلة يشار إليها بالبنان، ويطير صيته في الآفاق إلى أمد بعيد، فليتبوأ المؤلف مقعده بمكان تومئ إليه الأصابع من كل ناحية، وليهنأ بسمعة تطير مع الشمس كل مطار، ولكن ما دام القرآن يتلى، وكتب السنّة تدرّس، وفي القلوب إيمان، وفي الأدمغة عقول، فإن هذا الرأي الجديد لا يبقى على وجه الأرض إلا أن يحتمل ما تخلعه عليه النفوس الفاضلة من برود التهكم والتفنيد، ويرضى بما تناديه به ألسنة الصادقين من ألقاب الباطل والبهتان.
ولا يلاقي هذا الرأي تفنيداً من إخوان الإسلام فقط، بل يرمي في وجهه بالتزييف كل من درس تاريخ عهد النبوة، ووقف ساعة من نهار على روح التشريع، وإن كان من المخالفين الذين لا ينتمون للإسلام.
يزعم المؤلف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل أميراً للحكم وضبط الأمر في البلاد، وإنما كان يرسل غزاة، أو عمالاً، أو أئمة ودعاة للإسلام، ولا ندري ماذا دفعه إلى إنكار حقيقة تضافر عليها المحدّثون والمؤرخون، وإذا كان المدار في تحقيق المسألة على الرواية، فلا سبيل للمنكر عليها إلا أن يردها بطعن في سندها، أو يبين أن العقل السليم لا يقبلها، وهل مشى المؤلف في هذا السبيل المعقول، فتعرض لسند الروايات التي تثبت أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمراء ينظرون في شؤون البلاد، ويحكمون فيما شجر بين الناس، ونقَدها ببينة وعقل، أو أقام برهاناً على أن وجود ولاة يفصلون القضايا، ويدبرون