للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما استيفاء البحث في وسائل الحكم، فترشد إليه آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفصل في النوازل التي تُرفع إليه، كما استفصل المقرّ بالزنا: هل وجد منه مقدماته، أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة، استفصله: لعلّ به جنوناً، فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما وثق من عقله، استفصله بأن أمر باستنكاهه؛ ليعلم هل هو سكران، أم صاحٍ؟ فلما علم أنه صاحٍ، استفصله: هل أحصن، أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن، أقام عليه الحد (١).

والاستفصال موكول إلى اجتهاد الحاكم وذكائه: "فإذا ارتاب بالشهود، فرقهم، وسألهم كيف تحمّلوا الشهادة؟ وأين تحمّلوها؟ وذلك واجب عليه، متى عدل عنه، أثم، أو جار في الحكم. وكذلك إذا ارتاب بالدعوى، سأل المدعي عن سبب الحق، وأين كان؟ ونظر في الحال هل تقتضي صحة ذلك؟ وكذلك إذا ارتاب بمن القول قوله، والمدعى عليه، وجب عليه أن يستكشف الحال، ويسأل عن القرائن التي تدل على صورة الحال" (٢).

وحيث كان قلق الفكر مما يعوق عن استيفاء النظر في وسائل الحكم، نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن القضاء في حال يضطرب معه الفكر، وألمَّ بهذا في حديث: "لا يقضي حكم بين اثنين وهو غضبان" (٣).

وأما البينة، فقد وفّاها الكتاب والسنّة حقها، ولم يبخسها منه شيئاً،


(١) "إعلام الموقعين" (ج ٣ ص ٤٢٦).
(٢) "الطرق الحكمية" لابن قيم الجوزية (ص ٢٤).
(٣) "البخاري" (ج ٩ ص ٦٥).