ومما يتصل ببحث الاعتماد على البيّنة: أن القاضي لا يستند إلى ما يعلم في القضية، ومن شواهده حديث:"فأقضي له على نحو ما أسمع"، ولهذه الحكمة نصّ الفقهاء على أن القاضي الذي تقدم إليه بيّنة بخلاف ما يعلم من حال القضية، ولم يجد طريقاً واضحاً للقدح في شهادتها، تخلى عن الحكم فيها؛ كما يتخلى عن الحكم في قضية يكون هو نفسه أحد الخصمين مدعياً أو مدعى عليه، ويصبح بين يدي من يكلَّف للقضاء فيها كشاهد بما يعلم دون أن يكون لمنصبه القضائي في النازلة أثر كثير أو قليل.
وأما قوة العزم في الفصل والتنفيذ، فمن شواهدها حديث:"لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"، وحديث: كان ليهودي على ابن أبي الحدرد أربعة دراهم، فاستعدى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد! إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها. فقال:"أعطه حقه"، فقال: والذي بعثك بالحق! ما أقدر عليها، قال:"أعطه حقه"، قال: والذي بعثك بالحق! ما أقدر عليها، قال:"أعطه حقه". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال ثلاثاً، لم يراجع، فخرج ابن أبي الحدود، فباع بردة له، وقضاه حقه (١).
وأما إطلاق الحرية للخصوم، فشاهده حديث البخاري: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال:"دعوه؛ فإن لصاحب الحق مقالاً".
ولتجدن في الكتاب والسنّة بعد هذا: إرشاداً إلى سنن أخرى لا يستقيم حال القضاء إلا بها، فتجد التنبيه على أن القاضي لا يفصل في القضية حتى