وعلى هذين النوعين من فنون الكلام نزل القرآن الكريم، فمن الآيات ما هو بين بنفسه، ومنها ما لا يدرك معناه إلا من شهد وقت الوحي به، وعرف أسباب نزوله، وهذا ما دعا الذين أوتوا العلم إلى أن يعتمدوا على بيان الصحابة - رضي الله عنهم -، ويرجحوه على بيان غيرهم، ولا سيما بياناً أجمعوا عليه.
وقد عقد موضح أسرار الشريعة أبو إسحاق الشاطبي في"موافقاته" فصلاً (١) في تحقيق أن معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، وبسط القول في أن بيان الصحابة يقدّم على بيان غيرهم، وعدّ في مؤيدات هذه القاعدة المتينة:"جهة مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة"، وقال:"فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك".
فكثير من الآيات لا ينكشف معناه، ولا يستقر في النفس على وجه محكم، إلا بعد معرفة سبب نزوله، وحال نزوله، ثم القيام على غيره من الآيات التي ربما وجد فيها ما يخصص عمومه، أو يقيد مطلقه، أو يغير حكمه؛ لزوال علته، وقيام الحاجة الداعية إلى تبديله بحكم آخر.
إذن لا ينبغي لأحد أن يهيئ رأياً، ثم يصبّ عليه الآيات صبّاً، قبل أن يبحث عن حال نزولها، وينظر فيما عساه أن يخصصها، أو يقيدها، أو يرشد إلى تبدل حكمها.
فهل حافظ المؤلف على هذا الأصل الأصيل، فرجع في فهم هذه الآيات إلى حال نزولها، وجال بنظره في القرآن جولة لعله يهتدي السبيل إلى الرسوخ في علمها؟