الظاهر أنه لم يفعل ذلك، وإنما أمسك المصحف الشريف بيده، ونقل منه هذه الآيات مرتبة ترتب سورها، فحرّفها عن مواضعها، وتأولها على غير بينة من أمرها.
من المعلوم لدى المسلمين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بمكة نحو عشر سنين، وعمله مقصور على الدعوة بالحجّة والموعظة، وأنه كان يحزن لإعراض المشركين وعتوّهم عن سبيل الهداية، ويأخذ منه الأسف كل مأخذ، حتى كأنه مأمور بتصريف قلوبهم من الغي إلى الرشد، ويزيد على هذا: ما كانوا يعترضونه به من الأذى، ويسومون به أصحابه من سوء العذاب، فكانت الآيات تذكره ببيان وظيفته لذلك الحين، وهي مجرد البلاغ والإنذار، حتى إذا كانت منه على ظهر قلب، وعرف أنه قام بوظيفته كما يراد منه، خفّ عليه ما يجده من الحزن والأسى.
وبعد هجرته إلى المدينة المنورة، وإقامته بها نحو سنة، قضت حكمة الله بأن يكون للإسلام مظهر غير مظهره الأول، ونزلت آيات الجهاد وحدود العقوبات تترى، والذي قال له:{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}[الأنعام: ١٠٧]، وقال له:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: ٩٩]، هو الذي أنزل عليه قوله:{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة: ١٢٣]، وقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: ١٣ - ١٤]، وقولى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ