للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كتاب "الإسلام وأصول الحكم".

قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: ٢٢ - ٢٣]. وبيان سر هذا القصر بلاغة: أنه جاء بالنفي والإثبات؛ لأنه لما قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ]، وكان المعنى في ذلك: أن يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الإباء، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم، مع إصرارهم على كفرهم، واستمرارهم على جهلهم، وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم، وتتلوه عليهم، كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - حال من قد ظن أنه يملك ذلك، ومن لا يعلم يقيناً أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر، فأخرج اللفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشك، فقيل: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} ,ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته: إنك لا تستطيع أن تسمع الميت، وأن تُفهم الجماد، وأن تحول الأعمى بصيراً، وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج، ولمست تملك أكثر من ذلك" (١).

فانظر إلى فيلسوف البيان عبد القاهر الجرجاني (٢) كيف فهم أن الآية من نوع القصر الإضافي (٣)، وأن قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنذار في قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} لم يرد به نفي كل ما عدا الإنذار، وإنما أريد به نفي صفة معينة، وهي كونه - صلى الله عليه وسلم - يملك تحويل قلوبهم عما هي عليه من الإباء. وذكر ذلك


(١) "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني (ص ٢٥٧) من طبع سنة ١٣٣١ هـ.
(٢) عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (... - ٤٧١ هـ = ... - ١٠٧٨ م) واضع علم البلاغة، وإمام اللغة. من أهل جرجان بين طبرستان وخراسان.
(٣) قصر تعيين.