فكان له في هذا الموقف حكمة أعادت الحائر إلى يقينه، والمضطرب إلى سكينته.
جاء أبو بكر الخلافة إذ كانت له قدراً، ولم يبسط القوم أيديهم إلى مبايعته ليسوسهم بما يسوس به بعض الملوك رعايتهم من القوانين الوضعية، وإنما قلدوه تلك الرياسة على أن يقودهم بكتاب الله وسنّة رسوله، والاجتهاد الذي يلتئم بأصول الشريعة، وعلى أن يقوم بحراسة الدين، والدعوة إليه بحكمة وعزيمة.
والأدلة على أنه كان يتحرى في أحكامه وسياسته الكتابَ والسنّة مبثوثةٌ في كتب السنّة والآثار، وبالغةٌ في الكثرة إلى أن يحصل بها علم لا تخالجه ريبة. وأقرب مثل لهذا: محاورته لعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة؛ فإنها كانت تدور على فهم حديث:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". ولم يقدِم أبو بكر على قتالهم حتى التمس الحجّة من قوله في الحديث:"إلا بحقها"، وقال:"فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم عليه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني (١) وغيره، إجماعَ أهل العلم على أن الصدّيق أعلمُ الأمة،
(١) منصور بن محمد بن عبد الجبار (٤٢٦ - ٤٨٩ هـ = ١٠٣٥ - ١٠٩٦ م) من علماء =