والمداراة، يبتغى بها رضا الناس وتأليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون. ولا ينافيها القضاء بالقسط ولا إلقاء النصيحة في رفق. ومن ذلك قول أبي حازم، من أعلام التابعين للخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، حين فى خل عليه ووعظه، فقال له:(إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت).
وينبغي أن تكون مداراة العاقل لمن يرجو منه العود إلى الرشد، ويأنس من فطرته شيئاً من الطيب، فوق مداراته لمن شاب على لؤم الخلق وعوج العقل، حتى انقطع رجاؤه من أن يصير ذا خلق كريم أو عقل سليم.
والمداراة خصلة كريمة يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء، والحكيم يراعي في مقدراها وطريقتها ما ينبغي أن يكون. قال الإمام سحنون، في وصيته لابنه محمد (وسلّم على عدوك وداره، فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس). وفي سيرة القاضي يحيى بن أكثم، أنه كان يداعب خصمه وعدوه. وقد تبلغ المداراة إلى إطفاء العداوة وقلبها إلى صداقة، قال محمد بن أبي الفضل الهاشمي، قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟، قال: أخبي ناراً وأقدح وداً.
أما المداهنة فهي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل أو عمل مكروه، وهي تضم تحت جناحها الكذب وإخلاف الوعد. أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه منه، ومن دخل إلى الكذب من باب، سهل عليه بعد ذلك أن يأتيه من سائر الأبواب.
وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال، وليس من الصعب عليه -وقد مرن على الكذب- أن يخلف الوعد