والمداهنون يجعلون ألسنتهم طوع مرضاة القوي والوجيه، فيعجلون إلى قول ما يشتهي أن يقولوا، يمدحون ما يراه حسناً وإن لم يكن في الواقع حسناً، ويذمون ما يعدّه سيئاً، وإن لم يكن في الواقع سيئاً. أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على يد من في استطاعته الخير، فيربؤون بالسنتهم أن تساير أحداً في غير حق، ويؤثرون نصح القوي والوجيه على أن يزينوا له ما ليس بزين.
إن العبور إلى النفع على جسر من المداهنة يحرم صاحبه من أفضل الأخلاق وأعلاها وهو الصدق، بعد أن يحرمه من أطيب لذة وهي ارتياح الضمير. وإذا كان في الناس من يحرص على أن يكون صديقاً للطوائف المتباينة، فإن الرجل الطيب منهم يأبى أن يلوث صدره بصداقة من يتملق الرجل الخبيث.
قال رجل لعبد الله بن عمر بن الخطاب: إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، فأجابه عبد الله بن عمر:(كنا نعد ذلك نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه). ومن عظماء الرجال من يبغض المداهنة ولا يقبل من جليس مبالغة في مدح أو مسايرة. ومن المثل الكامل لهؤلاء العظماء عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فإنا نقرأ في سيرته، أنه قال لجرير، الشاعر حين دخل عليه بقصيدة يهنئه فيها بالخلافة: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً. وقال له رجل مرة: طاعتكم مفروضة، فقال له: كذبت، لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله.