تفرّع آل خلدون في إشبيلية، وكانت لهم فيها زعامة ورياسة، ثم رحل جده الحسن عقب فتنة خفقت ريحها في تلك البلاد، فنزل "سبتة"، ثم أرخى زمام مطيته متوجهاً إلى مدينة "عناية"؛ لصلة كانت بين بعض أسلافه وبين صاحبها الأمير زكريا، فلقيه الأمير باحتفاء، وأدخله في سلك رجال دولته، وجرى ابنه محمد على سنته في خدمة الدولة، وأدرك ما ناله والده من وجاهة وإقبال. وانتهى أمر ابنه محمد -الذي هو الجد الأدنى للفيلسوف ابن خلدون- إلى السكنى بمدينة "تونس"، والانتظام في هيئة الدولة، وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من مدينة تونس يستعمله عليها، ولكن ابنه محمداً -وهو والد الفيلسوف المتحدث عن حياته- عدل عن مسلك السياسة وخدمة الدولة، وآثر مدارسة العلم ومجالسة الأدباء، فأصبح معدوداً في زمرة العلماء، ومشهوداً له بالتقدم في فن الأدب.
* نشأة ابن خلدون في تونس:
في هذا البيت -الذي تقلَّب رجاله في أطوار خطرة، ثم بسط فيه العلم أشعة باهرة- ولد أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في غرة رمضان سنة ٧٣٢، فكانت نشأة ابن خلدون في أسرة امتطت ذرا الرياسة، وخفق فيها روح العلم والأدب، مما ساعد ذكاءه الفطري على أن يشتعل بشدة، وجعل نفسه الذكية بمقربة من الهمم الكبيرة.
نشأ ابن خلدون وكانت رياض العلم في مدينة تونس زاهية، وسوق الأدب نافقة. فاستظهر بالقرآن، وتلقى فن الأدب عن والده، ثم أقبل يجتني ثمار العلوم بشغف، ويتردد على مجالسة العلماء الراسخين - مثل: قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبي محمد الحضرمي، والعلامة الأبلي -.