للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خرجت يوماً من "برلين" على سكة الحديد إلى بعض نواحيها، وكان في رفقتي اثنان من مستشرقي الألمان. وبعد قليل أقبل عليَّ أحدهما، وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك؟ فقلت له: إنما يريد العرب في عصر جاهليتهم، وأما بعد أن تحلوا بهدي الإِسلام، فقد أصبحوا كغيرهم من الأمم: يجيدون النظر في السياسة، ويديرون زمامها على بينة. فلاح على وجهه الامتعاض من هذا الجواب. وليست ألمانيا أقل شرهاً وحرصاً على استعباد الشعوب الشرقية من بقية دول الاستعمار.

ويوضح ما قاله ابن خلدون من قلة خبرة العرب أيام جاهليتهم بمذاهب السياسة: أنهم كانوا مغلوبين لطبيعتين لا ينتظم معهما أمر الملك وإدارة شؤون الجماعة:

إحداهما: الانتصار لمثل الجار والقريب، والصاحب والحليف، وإن كان ظالماً، وكانوا يرون هذه الطبيعة من مقتضيات صحة العهد، وعزة الجانب. والسياسة إنما تقوم على قاعدة المساواة، وحماية الحقوق من أيدي المعتدين عليها، لا فرق بين بعيد وقريب، وعدو وحبيب. ويعتبر هذا بالحكومات الأجنبية، فإنك تجدها تعبث بقاعدة المساواة في البلاد المحتلة، فتستخف بحقوق الوطنيين، وترفع أبناء جنسها عليهم درجات، وهذا أول العلل التي تجعل سياستها منكرة، ووطأتها لا تطاق.

ثانيهما: المسارعة إلى مؤاخذة المسيء والانتقام منه بدافع طبيعة إباية الضيم، والسياسة تقضي باحتمال بعض الأذى، والإغضاء عن كثير من الهفوات.