الغالب في أسباب القوة من المال والعلم والاتحاد، ويربُّوها على العظمة وإباءة الضيم واستصغار العظائم؛ فإنها تعود إلى حياة وقوة تصارع بها حاكمها الغاصب، وإن كانت فئة قليلة، وبلغت جنود خصمها من الكثرة ما لا يخطر على البال.
لا تحقرن صغيراً في مخاصمة ... إن الذبابة أدمت مقلة الأسد
* العرب والسياسة:
عقد ابن خلدون في "مقدمة تاريخه" فصلاً ذهب فيه إلى أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك. وتدور هذه المقالة على ألسنة بعض من يريد الحطَّ من شأن العرب، ولا سيما الأعاجم الذين يريدون استعمار بلادهم، وإدخالهم تحت سيطرتهم، ويسوقونها كالشاهد على أن العرب لا يصلحون لأن يديروا سياستهم بيد مستقلة، وينقلها بعض العرب أو أنصارهم، فيرمي ابن خلدون بسفه الرأي في هذه القضية، ويحكم على تخطئته بحجة سداد نظرهم في السياسة، واتساع فتوحاتهم أيام الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم من دهاة الأمراء وأبطال الرجال.
والتحقيق أن ابن خلدون إنما يقصد العرب الذين يعيشون بالبادية، وقبل أن يخرجوا من ظلمات جاهليتهم إلى الاهتداء بمعالم الإِسلام. وعباراته صريحة في هذا الصدد. ومما قال في هذا القصد:"وإنما يصيرون إلى سياسة الملك بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية". ثم قال:"واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم".