وأذكر بهذه المناسبة أنه أقيمت مأدبة للشيخ محمد عبده عندما زار تونس، وكان من الحاضرين الشيخ سالم بو حاجب، فحكى حكاية اقتضى الحال أن يعيدها الشيخ محمد عبده للحاضرين، فقال له الشيخ: قد أعدتها بأحسن مما قلته أنا. والشيخ محمد عبده لم يزد في الحكاية معنى لم يقله الشيخ، وإنما حكاها بألفاظ أفصحَ من عبارة الشيخ بو حاجب، وأبلغَ.
وتذاكرت مع الشيخ عارف المنير أحدِ علماء الشام في علوم القرآن، فأخبرني بأن بعضهم قال له: ما وجه معجزة القرآن؟ فأجابه الشيخ عارف بقوله: بلاغته، فقال له المعترض: بلوغ الكلام الدرجة العليا من بلاغة اللغة لا يدل على أنه معجزة، كما أن (هوميروس) ألَّف في تاريخ اليونان قصيدة قالوا: هي أبلغ ما قيل في لغة اليونان، ولم يستطع أحد أن يقول مثلها في البلاغة، ولم يكن بذلك رسولاً.
فقلت للشيخ عارف: الفرق بين بلاغة (هوميروس) وبلاغة من يليه فرق قريب، أما الفرق بين بلاغة القرآن، وأبلغِ متكلم باللغة العربية، ففرق بعيد، فيصح أن يكون معجزة للرسول، وإن أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بليغة في ذاتها، ولكنْ هناك فرق بينها وبين القرآن. وقد تحدى الرسول العرب بالقراَن، فعجزوا عن الإتيان بمثله.
ومن بلاغة القرآن: قولُه تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: ١١٨]، فالمراد: وإن تغفر لهم، فإنك أنت القوي الغالب الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، ولا يصح الوقف إلا على قوله:{الْحَكِيمُ}، وليس مراده الاستشفاعَ لهم حتى يقول: فإنك أنت الغفور الرحيم - كما توهمه بعضهم، وجعل الوقف على