الصبر؛ لكثرة ما يلاقيه الراحل من متاعب بدنية، وآلام نفسية، ومثل: أدب المداراة؛ فإن البعيد عن وطنه أشد شعوراً بالحاجة إلى هذا الأدب ممن يعيش بين قوم يعرفون من حسبه ومكانة بيته ما يجعل صراحته خفيفة على أسماعهم.
ولا يخلو الراحل من أن يلاقي في رحلته رجالاً صاروا مثلاً عالية في مكارم الأخلاق، فيزداد بالاقتداء بهم كمالاً على كمال.
بقي يحيى بن يحيى بن بكير النيسابوري عند مالك بعد أن أتم الرواية عنه، وقال: أقمت لأستفيد من شمائله.
وقد يرى الرجل في وطنه سلطاناً طاغياً، وحكماً جائراً، فيتخلص بالرحلة إلى بلد يكون مجال الحرية فيه أوسع.
كان أَبو جعفر أحمد بن صابر القيسي كاتباً للأمير أبي سعيد فرج بن الأحمر ملك الأندلس، فكان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث، فبلغ ذلك السلطان، فتوعده بقطع يده، فقال: إقليم تمات فيه سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يتوعد بقطع اليد عليها، لجدير أن يرحل منه، فخرج، وقدم مصر.
وقد ينشأ الفتى في نبوغ، ويضيق بلده عن أنظاره الواسعة، فيرحل إلى مدينة تكون أوسع مجالاً للآراء الخطيرة، فتعظم مكانته، ويكثر الانتفاع بحكمته، ولولا الرحلة، لما عظم شأنه، ولما كثرت ثمرات نبوغه.
أذكر أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام مر عند خروجه من الشام بالكرك، فتلقاه صاحبها، وسأله الإقامة عنده، فقال له الشيخ: بلدك صغير عن علمي. وتوجه إلى القاهرة.
وأسوق شاهداً على هذا: أن القاضي يوسف بن أحمد بن كج الدينوري